مع بداية موسم خريف نحط الرحال بقرية ولد اميليد قاصدين احدى الدور العامرة والمسعدة لأهل أفطوط بعد يوم شاق في سباق مع غيوم السماء مخاف أن يقترن السماء والارض ويمتلأ الواد وتنقطع رحلة البحث والاستئناس بآخر رجل ظل عاض بنواجده على الجزء المهمول من ثقافة وفن موريتانيا الجميلة العصية على الاندثار والنسيان
مع قاهر الحزن ومسعد الناس العازف (لجباب) محمد ولد ابريك نبدأ حديث الناي النادر والشيق كما نسلط الضوء على تاريخ الناي وتقفي اثار رجالاتها العظام الذين لطالما كانو حاضرين في أحاديث الناس دون أن يحصلوا على تقدير احرى تكريم
- ومع إن تاريخ الناي قديم وقد يعاصر تاريخ الإنسان وتفاعلاته مع تقلبات الازمنة ومحاولاته حصر ما حاق به من الم، ومعبرا عن ما يلاقه من أفراح كانت الناي(النيفارة) الآلة الموسيقية المفضلة عند اهل ديار أفطوط، الممتد من سهول باركيول بلعصابة إلى ما وراء مقاطعة امبود مرورا باودية كوركل ومصبات جبل واوا الشامخ،
بعد جولة ميدانية لاستكشاف انغام النيفارة وتاريخها الزاخر وحيث كانت تغدو وتروح بين تلال خط افطوط الطويل والصعب نتقفى اثر رجال لولا شغفهم بالناي وكل ما يطرب الإنسان الرجال المعروفين بالجبابيب بالكاد تخلو قرية من جماعة منهم أو احدهم كحال الجباب الكبير والعازف القدير صاحب النفخ الشجي السبعيني محمد ولد ابريك القاطن بدقفك 30 كلمتر جنوب باركيول حيث يسرد كيف ومتى بدأ مداعبة الناي
حيث يقول متنهدا والحزن ينال من ما تبقى من وجهه الذي سيطرت عليه التجاعيد بفعل تعاقب الأيام والليالي إن الناي لم يعد كما كان وكذا ايضا العازفين له إذ يقول انا تعلمت على يد ايسلم ولد اباشه الذي منح تاج العزف وعلم الناي بهذه المنطقة بلا منازع حيث لم يكن عمري يتجاوز عشرين ربيعا ولم يكن لدي من طموح غير أن أصبح جباب القرى ومسعد الناس واخوض غمار المسابقات التي كانت بنسبة لنا معارك طاحنة ومن لم يكن محصنا يقع في الوحل وشراك المنافسين من عازفين ومرافقيهم بكل بساطة محاولة انتزاع لقب “الجباب” من مجموعة من القبائل والقرى أمر محفوف بالمخاطر والتحدي وليس اقلها ما يعرف بالضرب الباطن الذي يستخدم فيه كل انواع الدعاء والشعوذة والتمائم وتقديم القرابين مرورا بحسن الانصار والمعجبين
يتابع جليسنا الحديث تحت عريشه بالجانب الشرقي من قرية ولد اميليد وبجانبه أحد أحفاد ووريث سعادة الناس قائلا الحمد لله على كل شيء اذ لم أهتم بالمال ولم أكن اعتقد ان لامال اهمية اكثر من تسديد الحاجيات اليومية ولذا ها انا هنا وحيد وهرم وقد ودعت معظم الأصدقاء والزملاء وانا ايضا في الطابور انتظر ساعة وداع الأحفاد
- لا زائر يزورنا ولا قاصد يريد ما افنينا فيه حياتنا ولم نتلقى ولو تشجيعا من الجهات التي تقدم الهدايا بالسخاء وترعى المهرجانات السنوية لباقي الفنوف وشتى اشكال الطرب
ثم يقول مع هذا كله لم تسقط راية النيفارة ولم يصاب جمهورها بالاكتآب إذ ها انا اقدم الدروس لحفيدي هذا ومن أراد أن يكون على درب اجداده وقد تخرج على يدي العشرات من العازفين هكذا دوري وقد قمت به كي لا اشعر بخذلان معلمي الأول ولأكون عند حسن ظن الناي بي
وفي رده على سؤالنا حول اسعد اللحظات التي يمر بها “الجباب”
يقول قاهر الحزن لقب محمد ولد ابريك المفضل عنده أن من اسعد لحظات العازف وقت ارتدائه ملابسه ونفسه تحدثه عن كيف سيسعد الجمهور ثم يضع محازمه(امجاديل) على كتفيه والجندرية في معصمته قبل ان يبدأ بالنفخ في عوده المجوف أو قطعته المصنوعة من انبوب بلاستكي هكذا بداية رجال هضاب موريتانيا الوعرة في كل ميعاد مع الجمهور مستخرجين من الناي صوت لا يتوقف مداه حتى يستقر ويتناغم مع دقات قلب الحاضرين للحفل البهيج بعد تكبدهم عناء مشقة قطع مسافات بعيدة مكتسيين اجمل ما لديهم من ثياب، تاركين العنان للسعادة والمرح في جو اقل ما يوصف به بدوران المريدين المتشبعين بلغة التسامح والسمو على احد مشايخ التصوف العظام،
ان لحياة في أودية أفطوط خلال فصول السنة وخاصة فصل الربيع، لا يكون لها طعم بدون الناي والجباب والراقصين
مع ان تاريخ الناي ضارب في القدم وقد يتربع على عرش الأسبقية في طرب الإنسان وجعله مرحا ولو جوه حزين،
فإن الناي (النيفارة) الآلة النفخية التي تعتبر احد الآلات الأساسية في الموسيقى الشرقية العربية ويعود استخدامها لاكثر من خمسة آلاف سنة، مما يجعلها أول آلة عرفت في تاريخ الموسيقى بجدارة واستحقاق،
- تستخدم النيفارة في أوقات معلومة وبحضور من استطاع تلبية نداء(الرك) في أيامه التي تبقى محفورة في ذاكرة الصغار قبل الكبار ومن ايام النفخ في الناي المميزة ويتم التأريخ بها وحفظها كي لا تنسى ولا تندثر احتراما ليومها الشهيدة سواء كان عيدا أو يوم امتلاء السد او احد ايام حصاد الحقول وكذا يوم حفل زفاف وإكرام الضيوف …، للنيفارة مقامين من مقامات آزوان هما : اكحال فاق وابياظ سنييم،
لها ايضا أشوار خالدة توارثتها الأجيال وبها يتم التغني والتلحين مع ما يتم استحداثه من أشوار بين الحين والآخر لأسباب واحداث اجتماعية أو سياسية ومن أشوارها (جرادة كالو عنها لحكت انجاجبني وجاها الوالي ايدورها وحريثت لودي يدنك تكجاي ولاوادنة جاب الماء…
يصل طول النيفارة سبعين سنتمترا وبها خمسة فتحات صغيرة دائرية تمتد على طول الناي، أربعة فتحات متقاربة يضع عازف الناي (جباب) عليها أصابعه والفتحة الخامسة في الجانب العلوي للناي وعليها ينفخ العازف(ينفر) يتميز عازف الناي (الجباب) بملابس خاصة وهي سروال كبير مزركش يصل إلى ما تحت الركبة وشبه قميص صيفي وله مرافق عادة يكون ضارب الدوف،
يقسم عزف الناي عند اهل أفطوط إلى قسمين ولكل منها نايه الخاصة والراقصين عليه فالناي المصنوعة من الغاب تسمى (بالنيفارة لكبيرة) وصوتها غليظ ولا تعزف الا في المناسبات الكبيرة عند القوم،
اما الصنف الثاني يعرف (بالديداي) وجمهوره من صغار السن والفتيان والفتيات وعزفها اسهل من الأولى وكذا اشوارها ولا تحتاج لعظيم مناسبة لتعزف وإنما بسبب وبدونه قابلة الإخراج والعزف،
ومن الأماكن التي لا تزال محافظة على الناي بشكليها دباي لكنيبة ودباي لحرش وفم لكليتة بمقاطعة امبود، وكذا الغبرة وتمبل ولعويسي وادباي اهل مرزوك بمقاطعة باركيول يسمى ميدان العزف ب (الرك)و