علاوة على ما يوجبه المشرع الموريتاني على التجار من تقييد أموالهم في السجل التجاري وعلى بعض المواطنين والمقيمين من تصريح بممتلكاتهم لمصالح الجباية، يلزم القانون رقم: 2019 – 017 بتاريخ: 20 فبراير 2019، المتضمن مكافحة غسل الأموال وتمويل الإرهاب، الشخص الذي يتلقى أموالا معتبرة بالإفصاح عن مصدرها، وتجرم مادته الثانية “إخفاء أو تمويه الطبيعة الحقيقية للأموال أو مصدرها أو حركتها أو ملكيتها أو مكانها أو كيفية التصرف فيها والحقوق المتعلقة بها”.
ولم يكتف المشرع بتصريح صاحب المال بشأن مصدره وإنما أوجب على المؤسسات المالية، التي تمر عبرها الأموال والتي يفترض فيها الحرص على سلامة عملياتها والنأي بنفسها عن الشبهات، بالتحري عن مصدر تحويلات عملائها والتمعن في سببها والاحتفاظ بمبرراتها ورفع أي اشتباه إلى وحدة التحريات المالية الموريتانية التي يتعين أن تتلقى وتحلل المعلومات وتبحث في شبهات غسيل الأموال وتحيلها عند الاقتضاء إلى النيابة العامة التي تكلف سلطات الضبط بالبحث وجمع البينات وتحرك الدعوى العمومية وتقدم الأدلة للهيئة القضائية المختصة في الحكم.
ومن مهام وحدة التحريات المالية الموريتانية أن تقيم بلاغات الاشتباه التي تصلها وتعد تقارير دورية، سنوية على الأقل، حول نشاطات مكافحة غسل الأموال على الصعيد الوطني والدولي، أي أن من واجبها، علاوة على العمل اليومي، أن تضطلع بدور إعلامي للحفاظ على سمعة البلد. ويبدو أن المرسوم رقم: 2019 – 198 الصادر بتاريخ: 23 أكتوبر 2019 المتعلق بتشكيلة وقواعد تنظيم وسير عمل اللجنة الوطنية لمكافحة غسل الأموال وتمويل الإرهاب ووحدة التحريات المالية نص على أنها تتشكل من خبراء وموظفين دون أن يبوب على مسؤوليها مما يحمل على الاعتقاد بأنها غير مفعلة.
ويعهد بوضع سياسة محاربة غسيل الأموال للجنة الوطنية لمكافحة غسل الأموال وتمويل الإرهاب التي يرأسها محافظ البنك المركزي الموريتاني وتتشكل من ثلاثة عشر (13) عضوا يمثلون عدة قطاعات، ويناط باللجنة وضع اللوائح وإقرار التدابير المناسبة لمنع تعاطي غسيل الأموال في البلاد.
ولئن كان احترام خصوصيات الأفراد يحمل المؤسسات المالية وسلطات رقابة الأموال، في الظروف العادية، على عدم إذاعة المعلومات الخاصة فإن تأثير الرأي العام على النظام العام وحق المواطنين في الحصول على المعلومات يبرر إنارة السلطات لمن يهمهم الأمر حول القضايا التي تلفت الانتباه خاصة باعتبار البعد الدولي للمسألة ولأن السكوت يفسح المجال لانتشار الشائعات وربما عده البعض قبولا مع ما يترتب على ذلك من آثار سلبية على سمعة البلد ومصالحه الحيوية.
وتجدر الإشارة إلى أن ثمة متابعة دولية لغسيل الأموال تضطلع بها مجموعة العمل المالي (FATF) وهي هيئة مستقلة متعددة الحكومات يوجد مقرها في باريس وتعمل على تعزيز سياسات حماية النظام المالي العالمي من غسل الأموال وقد وضعت معايير دولية لمكافحة غسل الأموال وتمويل الإرهاب وانتشار التسلح لخصتها في أربعين توصية تم اعتمادها في فبراير 2012 وضمنتها موريتانيا في قانون مكافحة غسل الأموال وتمويل الإرهاب المذكور.
وتوجد هيئات بحث وتصنيف في مجال غسيل الأموال حيث يقوم معهد بازل للحوكمة (الذي يوجد مقره في مدينة بال بسويسرا) بالبحث في مدى أخذ الدول بتدابير منع غسيل الأموال ويصدر، منذ خمسة عشر عاما، مؤشرا سنويا يرتب الدول بحسب ضعف تدابيرها في محاربة غسيل الأموال وفي سنة 2021 صنف هذا المؤشر موريتانيا في الرتبة الثالثة عالميا من حيث سوء تدابير مكافحة تبييض الأموال عالميا.. ولئن تحسنت رتبة البلد تدريجيا حتى وصل في نسخة السنة المنصرمة (Basel AML Index 2023)إلى الرتبة الثالثة والثلاثين (33) فإن موريتانيا ما تزال مدرجة على الخريطة الحمراء التي تشي بمخاطر تبييض مرتفعة مما يوجب العمل الجاد للخروج من الدرك.
ويبدو أن التحسن في رتبة البلاد راجع إلى وضع إطار تنظيمي ملائم نظريا (لاقتباسه من المعايير الدولية) إلا أن العمل في الواقع يبدو محدودا بسبب عدم تنظيم وحدة التحريات المالية الموريتانية ولانشغال أعضاء اللجنة الوطنية لمكافحة غسل الأموال وتمويل الإرهاب بمهامهم الخاصة ولعدم الأخذ بأسباب الشفافية واختلال معايير التعيين في المسؤوليات العامة.
يعمل المجتمع الدولي جاهدا لمحاربة غسيل الأموال ويوجب القانون التحري عند الاشتباه لذلك لا يسوغ التصامم عن مطالب التحري عن مصدر الأموال مجهولة المصدر لما يحمله ذلك من ضرر على المصالح الحيوية للبلاد ولأن من شأن عدم الإفصاح عن أسباب الثراء الخفية أن يشجع الكسب غير المشروع.. ويتعين على السلطات أن تنظم وحدة التحريات المالية الموريتانية تمهيدا لتفعيلها وتأهيلها للقيام بالمهام الموكلة إليها.. ولأن مالكا كان يعتذر عن نفسه فلم لا تعتذر موريتانيا عن نفسها؟!
مصدر : وكالة الأخبار المستقلة