ابتُلينا بقوم وَلِعوا بتقليد الغَرب, فاقتَدَوا به وابتغَوا منه ما يبتَغيه حمامُ الحَرَم في أكناف البيت, فهُم لِما صَبَغهم به الكُفَّارُ أشربُ من الرَّمل للماء, وكُلَّما نُهُوا.. لَوَّوا رُءوسَهم, وعَبَسوا كأنَّما غُسلت وُجوههم بزيتِ سيَّارة فاسِد, ومالوا بالحكم عن محلِّه, فذَكرُواْ من صناعاتِ الكافرين الباهرة واختراعاتِهم السَّائرة ما يَرَونَه أنجُمَ هداية ومَصابيحَ عقول, لا يعرِّج عنها إلا متخبِّط في دَياجير التَّخلُّف ومَهامه الجهل..مع أنَّ هؤلاء الأتباع لم يَصنعُوا جديدا نافعا, ولم يَحتفظوا بأصيل يُحدِّد الهُوية..وإنَّما جعلوا من التَّقليد شعارا, ومن التَّمرُّد على الأصالة منارا.ألا ليتَهم سلكُوا مسالك القوَّة, وحرِصُوا على ما يَنفعهم من الابتكارات, فتنسَّموا في ظلال الإيمان وعلى دَرب الهُوية نفحات ممَّا رواه مسلم عن أبي هريرة أنَّ النَّبيَّ الأكرم صلَّى الله عليه وسلَّم قال: (المؤمن القويُّ خير وأحبُّ إلى الله من المؤمن الضَّعيف، وفي كلٍّ خيرٌ, احرِص على ما يَنفعُك، واستعِن بالله, ولا تَعجز..) لكنَّهم لم يَقطعوا شَعرةً, وعجزوا حتَّى عن الحِفاظ على الهُوية, فصدحوا بالاحتفال بعيد الميلاد. إنَّ من المتّفق عليه قول النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّم: (لَتَتَّبِعُنَّ سَنَن مَن قبلكم شِبرا بشبر وذراعا بذراع، حتَّى لو سلكوا جُحر ضبٍّ لسلكتُموه) قلنا: يا رسول الله اليهودَ والنَّصارى؟ قال: (فمَن؟).وهذا حَكمٌ عَدل, وميزانٌ دَقيق, ومُستَشارٌ مُؤتَمَن, ومُخبِرٌ صادق بحكم أعياد الميلاد الَّتي لم يحتفل بها الرَّعيل الإسلاميُّ الأوَّل ولا الأجيال الفريدة المتلاحقة الَّتي ملأت الدُّنيا بهجةً ومسرَّة, وإنَّما كانت من سَنَن النَّصارى المُتضمِّنة لألوان من الكُفر وضُروب من الفُجور.ورُبَّما سألَ بعضُ النَّاسِ عن إجابَة دَعوة من دَعاهُ ليلة الميلاد إلى طَعام بمُناسَبتها, فالجواب عَدَم جواز الإجابة لما فيه من الاحتفال والإعانَةِ عليه, وقَد أفتَى بذلك الأئمَّة.فقد ذكر الونشريسِيُّ في المعيار أنَّه (سُئل أبو الأصبغ عيسى بن محمد.. عن ليلة يناير التي يُسمِّيها الناسُ الميلاد، ويجتهدون لها في الاستعداد، ويجعلونها كأحد الأعياد…ويَعدُّونه رأس السَّنة.. ؟ فأجاب: ..كلُّ ما ذكرته في كتابك فمحرَّم فعلُه عند أهل العلم.. ورويت أيضاً أنَّ يحيى بنَ يحيى الليثيَّ قال: لا تجوز الهدايا في الميلاد من نصراني ولا من مسلم، ولا إجابةُ الدَّعوة فيه ولا استعدادٌ له، وينبغي أن يُجعل كسائر الأيَّام)ونَقلَ أيضا في المعيار عن سُحنُون قوله: (لا تجوز الهدايا في الميلاد من مسلم ولا نصراني، ولا إجابة الدَّعوة فيه ولا الاستعداد له)وفي معنى ذلك تبادُل التّهاني –ويكثر في وسائل التّواصل- فلا يجوز فيها, وقد ألَّف العلماءُ في مناسبات التّهاني, فألَّف السُّيوطِيُّ كتابا لطيفا سمَّاه “وصول الأماني بأصول التهاني” جمع فيه ما تفرَّق في كتُب الحَديث من مَسائل التّهنئة بالأعياد والأعوام والأيَّام والمناقب العليّة والفضائل الدِّينيَّة وغير ذلك, ولم يَذكُر التَّهنئة بالسَّنة الميلادية لأنّها ليست مُناسَبَةً إسلامية أصلا. إنَّ الحفاظ على الهُوية الإسلامية مَنوط بالاعتزاز بالإسلام, والتَّميُّز به عن غيره, فأحكامُه للنُّفوس أزكى, وحُدوده في الأرض أزهى, ودَعوتُه للعلم أرسَخ, وترغيبُه في الابتكار أوعَى, وأغصان التَّعاون فيه لا تَذبُل..(ولكنَّ أكثرَ النَّاس لا يَعلمون)
الفقيه : محمد سالم المجلسي