من يتأمل الصور الواردة من أعماق الشرق، أو من الجنوب المنسي، أو من غرب البلاد، يلاحظ مشهدا متكررا لا يخطئه البصر، شيوخ من لحراطين، بسطاء في هيئتهم، أنقياء في قلوبهم، يستقبلون بعض الوزراء والسياسيين بابتسامة صادقة، ونوايا خالية من المكر أو التملق، رغم أنهم لم يتلقوا منهم يومًا خدمةً حقيقية، أو مكسبًا شخصيًا يخفف عنهم ألم التهميش الطويل.
وجوههم، التي يعلوها الشيب وتغطيها التجاعيد، تحكي قصص الحرمان، وتحمل بصمتٍ عبء سنين من الإقصاء والنسيان. ورغم ذلك، يفرحون بالزيارة، ويتفاعلون مع القادمين بحفاوة الكرماء، لا بحسابات السياسيين. مشهد لا تُخطئه العين: فقر واضح، وبؤس صارخ، لكنه لا يمنعهم من استقبال ضيوفهم بقلوب مفتوحة، كأنهم يتمسكون بأمل لا يريدون أن يفقدوه.
الغريب أن أغلب هؤلاء الزوار، لا يتذكرونهم إلا في المواسم السياسية، حين تدق الحملات الانتخابية طبولها، أو حين يحتاج المسؤول إلى صورة تزين صفحته الرسمية تحت عنوان “مع أبناء الشعب”. صورة تُلتقط على عجل، ليتباهى بها السياسيون أمام الرأي العام، وكأنها شهادة على قربهم من المهمشين، بينما الحقيقة أن هذا القرب لا يتجاوز عدسة الكاميرا.
ومن يتأمل هذه الصور بعمق، يدرك أن لحراطين ما زالوا، رغم كل ما مروا به، يحملون قلوبًا بيضاء، ويبادلون البيظان حبًا ووفاءً، لم ينقطع رغم الألم التاريخي، ولم يتغير رغم استمرار التهميش.
هنا يجب أن نضع السؤال الأهم: إلى متى يُترك هؤلاء الناس في زاوية الانتظار؟ إلى متى تظل هذه العلاقة من طرف واحد؟ لحراطين ليسوا أدوات انتخابية، ولا “كومبارس” في مسرحيات المواسم. إنهم جزء أصيل من هذا الوطن، كانوا دومًا أوفياء في أوقات الشدة، وصادقين في لحظات الخيانة، حلفاء في وحدته، ومحبين رغم الكراهية التي وُجهت إليهم.
إن استمرار تجاهلهم، والاكتفاء باستدعائهم في اللحظات الدعائية، ليس فقط ظلما، بل إهانة لعقولهم وكرامتهم. يجب أن ينظر إليهم كشركاء حقيقيين، لهم الحق الكامل في التنمية، والتعليم، والتمثيل السياسي، والمكانة الاجتماعية. فكل شيء له حدود، حتى الصبر… وكل ظلم، إن لم يُصحح، يتحول إلى نار تحت الرماد.
ختاما: على البيظان أن يدركوا أن لحراطين كانوا، وما زالوا، الأوفياء الأصدق، الحلفاء في أوقات الشدة، والسند حين عزّ النصير. لم يعرفوا من لحراطين يوما غدرا ولا خيانة، بل وجدوا فيهم قلوبا صافية، ووفاء نادرا لم يأتِهم من سواهم.
لذا، فإن الإنصاف يقتضي إشراكهم وإشراك أبنائهم في خيرات هذا الوطن، والاعتراف بحقوقهم كشركاء لا كمجرد تابعين. يجب أن يتألموا لآلامهم، ويحزنوا لأحزانهم، كما يفرحون لأفراحهم، لأن اللحمة الوطنية لا تكتمل إلا بالعدل، ولا تُبنى إلا على المساواة.
هؤلاء هم لحراطين، الذين وقفوا معكم بالأمس، كما وقفوا مع آباؤهم وجدادكم من قبل ، فكونوا أوفياء كما كانوا… واحفظوا الود كما حفظوه.