في ذاكرة الموريتانيين الشعبية، لا تُحفظ الأسماء بالألقاب أو الأنساب فقط، بل تُخلّد بالخصال النبيلة والمواقف السامية. ومن بين أولئك الذين خطّت أسماؤهم في وجدان الناس قبل أن تُدوّن في السجلات، يبرز اسم الوجيه همدي ولد محمود ولد أحمد مولود، المعروف بـ”الدّهاه”، ذاك الرجل الذي أشرقت شمسه من مدينة أطار، فأضاء بنبله وكرمه صفحات من التاريخ الاجتماعي الموريتاني.
ليس غريبا أن يُصبح الرجل مثلا يتداول في الألسنة: ” تظحك فأطار ما بوك الدهاه” هذه العبارة الشعبية العميقة ليست مجرد طُرفة دارجة، بل هي شهادة تاريخية على رفعة مقام رجل بنى مجده بكدّه، ونحت شخصيته من صخر المروءة والعصامية، حتى صار وجهاء أطار وأعيانها ينحنون احتراما له، ويجلون منزلته التي لم تكن تُشترى ولا تُورث، بل تنتزع بسخاء اليد، ولين الجانب، وحفاوة الاستقبال حتى قيل فيه من الشعر الشعبي أيضا.
همدِّي للسترَ معهودْ :: إنَيّرْ فيهَ وِ سَدِّي
منهوّ راجل لاهِ إعودْ :: فالستْرَ كيفَتْ هَمّدِّي
كان “الدهاه” أكثر من مجرد وجيه، كان ملاذا للضعفاء، وملجأ لعابري السبيل، ومائدة مفتوحة في وجه العابر والمقيم. لا يفرق بين الغني والفقير، ولا بين الشريف والمغمور، فالجميع أمامه سواء في ميزان الكرم وواجب الضيافة.
منزله لم يكن بيتا عاديا، بل كان مدرسة في الأخلاق، ومنارة للوفاء، ومتحفًا مفتوحًا للقيم الأصيلة. ومع كل هذا، بقي الدّهاه متواضعًا، بعيدًا عن الأضواء، فلم يُنقل لنا عنه استعلاء ولا فخر، بل ذُكر بدماثة خلقه، وصفاء معدنه.
لقد عكست الأمثال الشعبية قدره، وخلّده الناس قبل أن تخلّده الكتب. ففي زمنٍ كثر فيه الحديث عن الوجاهة وتضاءلت الوجوه الحقيقية، يظل الدهاه شاهدًا صامتًا على عصرٍ كانت القيم فيه هي تاج الوجاهة ووسام الكرامة.
رحم الله الدهاه، وبارك في من سار على دربه، ودام للكرم أهله.
#خطاب_الاشراك #صرخة_في_بحر_الحرمان #تبصير_أخلاقي