الشعوب صانعة التغيير الديمقراطية والعلمانية كمدماكين للتحرر من الاستبداد تُعدُّ مسألة التغيير المجتمعي من أعقد القضايا التي تواجه الأمم، لكن التاريخ يُظهر أن الشعوب القادرة على قيادة تحولات جذرية هي تلك التي تبني هويتها على أسسٍ متينة من الثقافة الديمقراطية والفكر العلماني. فالديمقراطية، بوصفها نظامًا يضمن تداول السلطة واحترام التعددية، والعلمانية، كضامن لفصل الدين عن الدولة وحماية الحريات الفردية، يشكلان معًا بيئةً خصبةً للإبداع الفكري والانطلاق نحو التقدم. في المقابل، تظل المجتمعات التي ترتهن لأنظمة إستبدادية عاجزةً عن كسر حلقة التخلف، حيث يتحول الحكم من طاغيةٍ إلى آخرَ أكثر قسوةً، في دورةٍ مُفرغةٍ من القمع والركود.
الديمقراطية والعلمانية: ركائز التغيير المستدام
لا يقتصر مفهوم الديمقراطية على الانتخابات والشكليات السياسية، بل يتعداه إلى بناء وعي جمعي بقيمة المشاركة الشعبية، واحترام الرأي الآخر، وإرساء مبدأ المساءلة. ففي المجتمعات الديمقراطية، تُصاغ القرارات عبر حوارٍ مؤسسيٍ يشمل كافة الأطياف، مما يُقلل من هيمنة الفرد أو الجماعة الواحدة. أما العلمانية، فليست عداءً للدين كما يُصورها خصومها، بل هي ضمانةٌ لحيادية الدولة تجاه المعتقدات، وحمايةٌ للمجال العام من الاستغلال السياسي للخطاب الديني. هذا الفصل يسمح بتركيز الجهود في تطوير التعليم، والاقتصاد، والعدالة الاجتماعية، بعيدًا عن الصراعات الهوياتية.
مجتمعات الاستبداد: حلقة مفرغة من التدهور على النقيض من ذلك، تعاني المجتمعات الخاضعة للأنظمة الشمولية من انعدام الآليات القانونية والمؤسسية التي تسمح بتداول السلطة أو محاسبة الحكام. فغياب الديمقراطية يدفع النخب الحاكمة إلى الاعتماد على القمع لتثبيت سلطتها، مما يؤدي إلى تفكيك البنى الاجتماعية، وإضعاف الثقة بين الأفراد والدولة. وفي ظل غياب الفكر العلماني، تُستغل الانقسامات الدينية أو الطائفية كأدواتٍ لتشتيت الرأي العام عن إخفاقات النظام. النتيجة هي سلسلةٌ من الحكام المستبدين، كلٌ منهم يُورث البلاد مزيدًا من التخلف، إذ يُحافظ على السلطة عبر إفقار الشعب وتجهيله، بدلًا من منحه الأدوات لبناء مستقبلٍ أفضل.
دروس التاريخ: من الثورات إلى الإصلاحات تُقدم لنا التجارب التاريخية أدلةً واضحةً على هذه الفرضية. ففي أوروبا، مثّلت الثورات الديمقراطية والعلمانية في القرنين الثامن عشر والتاسع عشر نقطة تحولٍ نحو الحداثة، حيث أتاح فصل الدين عن الدولة ظهور مفاهيم المواطنة وحقوق الإنسان.
بالمقابل، شهدت العديد من الدول العربية التي افتقرت إلى ترسيخ هذه القيم انتكاساتٍ بعد موجات التحرر من الاستعمار، حيث تحولت الأنظمة الثورية إلى ديكتاتوريات عسكرية أو ملكيات مطلقة، تُكرس الفساد وتقمع الحريات. حتى الحركات الاحتجاجية التي انطلقت خلال “الربيع العربي” لم تُفضِ إلى تغيير حقيقي في غياب بنيةٍ ديمقراطيةٍ وعلمانيةٍ قادرة على استيعاب المطالب الشعبية.
نحو تغييرٍ ممكن: بناء الثقافة قبل الثورة لا يكفي إذن الدعوة إلى التغيير دون تهيئة الأرضية الثقافية والفكرية له. فالثورات العفوية قد تُسقط طاغيةً، لكنها تترك فراغًا تملؤه قوىً قد تكون أشد استبدادًا. لذلك، يجب أن تسبق المطالبة بالحرية عمليةٌ تربويةٌ طويلة الأمد، تعزز قيم النقد البناء، والحوار، وقبول الاختلاف. كما أن تعزيز المؤسسات المدنية المستقلة كالإعلام الحر والنقابات والأحزاب يُشكل درعًا ضد عودة الاستبداد.
في أعتقادي الخاص ليست الديمقراطية والعلمانية شعاراتٍ مجردةً، بل هما مشروعٌ حضاريٌ يتطلب إرادةً جمعيةً وصبرًا طويلاً. فالشعوب التي تنجح في تحرير نفسها هي تلك التي تستثمر في وعي أبنائها قبل أن تستثمر في شعارات ثوراتها.
كتبه : الكاتب والناقد : زكريا نمر