21

“يشير الفيلسوف الكاميروني أشيل مبمبي إلى أن وهم التمايز العرقي والقبلي في إفريقيا لم ينبثق من فراغ، بل هو من صناعة استعمارية دقيقة، تعمدت تفكيك المجتمعات المحلية وإعادة تشكيلها على أسس انقسامية، تجعل من التضامن بين المكونات الاجتماعية أمرًا مستحيلًا. الاستعمار، في جوهره، لم يكن مجرد احتلال جغرافي أو استنزاف اقتصادي، بل كان مشروعًا معرفيًا وأيديولوجيًا، غايته الأساسية إعادة تعريف الهويات، وتفكيك الروابط الثقافية الجامعة، وزرع الشك والعداء بين الجماعات المتجاورة. فبقدر ما كان الاستعمار يفرض سلطته بالقوة، كان يزرع أدوات استمرارها في البنية الذهنية للمستعمرين، من خلال تقسيمهم إلى هويات عرقية وقبلية متصارعة، ومن ثم تقديم نفسه كوسيط ضروري لحفظ “النظام”.
بعد رحيل المستعمر شكليًا، لم تغب هذه البنية، بل بقيت حاضرة بقوة، إذ ورثتها الدولة الوطنية الجديدة، أحيانًا عن وعي وأحيانًا أخرى تحت ضغط الواقع المفكك. فتواصلت إعادة إنتاج خطاب التمايز، ولكن هذه المرة بأدوات محلية، أشد فتكًا وأكثر رسوخًا. أصبح الإعلام يمارس دورًا خفيًا في تعميق الفجوة بين الجماعات، عبر تكريس صور نمطية سلبية أو تعزيز مشاعر التفوق، وأضحت المناهج الدراسية صامتة عن سرد التاريخ من منظور جامع، بل تنحاز أحيانًا لسرديات انتقائية تُقصي مكونات واسعة من ذاكرة الأمة.
يتحول الاختلاف الطبيعي إلى تهديد وجودي، ويُصبح “الآخر” المحلي هو العدو، لا الاستعمار الذي قسّم، ولا السياسات التي فشلت في خلق وطن جامع. وتُزرع في الأجيال الجديدة بذور الشك والخوف من كل ما لا يشبههم، فينشأ الطفل وهو يظن أن الانتماء لعِرقه أو قبيلته هو منبع القيمة، وأن الولاء يجب أن يكون للجماعة الضيقة لا للوطن الواسع. هكذا، تتكاثر مشاعر الانغلاق، وتضمحل فرص بناء مشترك وطني، وتتكرس ثقافة الإقصاء بوصفها قاعدة التعامل بين أبناء الوطن الواحد.
بهذا المعنى، فإن وهم التمايز ليس مجرد ميراث استعماري، بل هو منظومة حيّة، تتجدد باستمرار عبر الخطاب، والمؤسسات، والسلوكيات اليومية. ولا يمكن تفكيكها إلا بإعادة تعريف العلاقة بين الأفراد والجماعة، وبين الهوية الفردية والانتماء الوطني، على أسس إنسانية وأخلاقية تُعلي من شأن الكرامة والمساواة، وتحتفي بالاختلاف لا بوصفه لعنة بل كونه ركيزة من ركائز العيش المشترك.”