6
في ذاكرة الوطن، قلما تجد اسما يستحضر دون انقسام، لكن مسعود ولد بلخير ظل استثناء يفرض احترامه حتى على خصومه، لأنه لم يكن مجرد زعيم سياسي، بل كان صوت المقهورين، وظلّ النبض الحي لقضية طالما ظُن أنها ستموت في الظلال: قضية العبودية.
ولد مسعود من رحم المعاناة، لا يحمل في تاريخه ميراثًا من السلطة أو الامتياز، بل جاء من الهامش الاجتماعي، من القاع الذي سُجن فيه آلاف من بني جلدته تحت صمت التاريخ، ليقف، لا ضد من فوقه فحسب، بل ضد نظام اجتماعي بأكمله، ويقول: كفى.
منذ شبابه، خاض مسعود معركة غير متكافئة، معركة ضد واقع جائر، استخدم فيها سلاح الكلمة، والصمود، والعمل الميداني. أنشأ أول تنظيم سياسي يعبر بوضوح عن قضية الحراطين، واستطاع عبر التحالف الشعبي التقدمي أن يحوّل التهميش إلى نضال مشروع، ويصنع من جراح الماضي خريطة طريق نحو موريتانيا جديدة.
لم يكن نضاله محصورًا في فضاء الهويات الضيقة، بل ظل مؤمنًا أن العبودية ليست مأساة الحراطين وحدهم، بل جرح نازف في قلب الوطن كله، وأن الإنصاف لا يكون إلا عندما تتحول موريتانيا من بلد تُحدد فيه المكانة بلون البشرة، إلى وطن يُقاس فيه الإنسان بما يقدّم، لا بما يرث.
في البرلمان، وفي الشارع، وفي المنابر الدولية، دافع مسعود عن موريتانيا الجامعة، عن وطن لا يُقصي أحدًا، ولا يُقصّر في ردّ المظالم، عن بلد يملك شجاعة مواجهة ماضيه، ليبني مستقبله على أسس من العدالة والمساواة.
دفع مسعود من حياته ثمنًا باهظًا لهذا الموقف، من التهميش السياسي، إلى محاولات الطمس والتقليل، لكنه لم يبدل، ولم يساوم. اختار أن يبقى شامخًا، كرمز لما يمكن أن تفعله الإرادة عندما تكون مشحونة بالحب للوطن، لا بالحقد عليه.
واليوم، حين تذكر كلمات مثل العدالة الاجتماعية، المساواة، محاربة العبودية، يقف اسم مسعود ولد بلخير في طليعة من جعلوها واقعًا، ولو نسبيًا، بعد أن كانت مجرد شعارات يتردد صداها في فراغ التاريخ.
رحلة هذا الزعيم هي تذكير دائم أن من يملك الحق والصدق والصبر، قادر على انتزاع مكانه في الوجدان الوطني، وأن موريتانيا التي حلم بها مسعود ولد بلخير، لا تزال ممكنة، إذا صدقت النوايا، واتسعت القلوب لكل أبنائها.
أما من يحاول اليوم التقليل من شأن هذا الرمز الوطني، فإما أنه لم يقرأ التاريخ جيدًا، أو أنه يقرأه بعين غير بريئة. فالأوطان لا تنهض بنكران الجميل، ولا تُبنى بالإنكار الانتقائي لتضحيات رجال صدقوا ما عاهدوا الله عليه.
مسعود ولد بلخير لم يكن مجرد سياسي، بل حالة وعي، وحكاية صمود، وشاهد على حقبة بأكملها من نضال المظلومين. وإن كان الزمن قد دار، والمواقف قد بدّلت أثوابها، فإن مواقفه ظلّت ثابتة، كالجذور الراسخة في تربة الوطن.