[منصة باركيول.نت] كانت فرنسا منهكة بسبب حرب الجزائر، وكانت إمبراطوريتها تعيش مرحلة تحولات مهمة، ولكن كان الحدث الأهم هو عودة الجنرال ديغول إلى السلطة. وقد أسهمت عودته في فاتح يونيو 1958 ، في التعجيل بحصول إفريقيا جنوب الصحراء على استقلالها الداخلي التام، وهي بلاد كانت خاضعة منذ سنة للقانون الإطاري.
ففي 25 يونيو قررت الحكومة الفرنسية تحويل رئاسة مجالس الحكومات إلى مساعدى رؤسائها الإفريقيين. أما فيما يخص موريتانيا فقد نصب الوالي الفرنسي موراك يوم 31 يوليو الرئيس المختار ولد داده في مسؤولياتيه الجديدة، ولم يعد هو عضوا في المجلس.
وكان الجديد الذي أضافه ديغول فيما يخص تصفية الاستعمار هو إنشاء المجموعة الفرنسية الأفريقية، وكان على مشروع القانون المنشئ لها أن يعرض على الشعب الفرنسي وعلى الشعوب المعنية في إفريقيا ومدغشقر للاستفتاء عليه.
و هكذا كان المختار ولد داداه يرغب في لقاء الجنرال ديغول ومساعديه الأساسيين بسرعة لمعرفة ما سيتم بشأن هذه الاستفتاءات التي يجري التحضير لها والتي ستحدد مصير موريتانيا. فتوجه المختار إلى باريس وأقام فيها إقامة امتدت من 5 إلى 29 يونيو 1958 ،
وفي 2 و 3 سبتمبر اجتمعت اللجنة القيادية لحزب التجمع الموريتاني في أطار، وكان الجو مشحونا بالخلافات، فعاصمة أدرار كانت معقل حزب النهضة الذي ظهر منذ شهر.
وكان قادة هذا الحزب المنحدرين من رابطة الشباب الموريتاني باستثناء زعيمه بياكي ولد عابدين. وأعلن حزب النهضة الذي كان بعض أعضائه موالين للمغرب دعوته للتصويت بالا في استفتاء 28 سبتمبر، وهو إجراء قد يكون تكتيكيا. وكانت المبررات التي قدمها هذا الحزب لعدم التصويت بالإيجاب هي المبررات نفسها التي تبثها إذاعة المغرب يوميا، وقد تحدث عنها المختار في مذكراته، وقال أقل ما يقال عنها إنها لا تحمل تنويها به ولا بحكومته, وفي هذا الجو كانت نقاشات اللجنة القيادية ساخنة، وكان بعض أعضائها قد تأثروا بأجواء “النهضة” الأطارية. وفي الختام صوتت الأغلبية الساحقة ب نعم” (23) صوتا مقابل 3 أصوات محايدة). وكان على حزب التجمع أن يبدأ حملته في مواجهة الحملة التي يقودها حزب النهضة. والحقيقة يقول المختار ولد داداه أن حملة هذا الأخير لم تتجاوز أدرار وبعض مناطق تكانت بدرجة أقل.
وكان على حزب التجمع أن يوضح لكافة الموريتانيين، وبصراحة، الأسباب التي جعلته يتبنى التصويت بـ نعم. وهي أسباب واضحة للعيان فالبلد ما يزال تحقيق وحدته السياسية أمرا بعيد المنال، ويطالب المغرب بكامل أراضيه، لا يمكن، مع الأسف، أن يستغني عن فرنسا، وعلى موريتانيا في هذه الحالة، ألا تختار غير ما اختارته جل البلدان المنتمية لغرب إفريقيا الفرنسي شرق إفريقيا الفرنسية ومدغشقر.
وفي 28 من سبتمبر صوت معظم الموريتانيين بنعم حيث بلغت النسبة 94 % من الأصوات. وفي 30 من الشهر نفسه ألقى المختار ولد داداه بيانا في الإذاعة تعليقا على التصويت محددا ،دلالته فقال لقد عبرتم الجماهير الموريتانية من خلال تصويتكم العريض يوم 28 عن رغبتكم في بناء مستقبلكم بدعم من فرنسا. ويضيف إن موريتانيا يمكنها الآن أن تُعد العدة لخلق أفضل الظروف لنيل استقلالها وذلك بفضل هذا الدستور الذي أجازه الشعب الموريتاني بأغلبية كبيرة. وسوف تنسحب في الوقت المناسب من مجموعة الشعوب الحرة”، الواردة في الفصل الثاني عشر لنقيم معها اتفاقيات تعاون.
وخلال الشهرين الأخيرين من سنة 1958 اتخذنا يقول المختار ولد داداه الإجراءات التي تمكننا من ممارسة الاستقلال الداخلي التام. وهكذا اجتمعت في 25 من نوفمبر اللجنة القيادية لحزب التجمع الموريتاني في نواكشوط للمرة الأولى، وأبدت موقفها من إقامة دولة موريتانية متمتعة بالاستقلال الذاتي، وعضو في المجموعة الفرنسية الإفريقية، مع الاحتفاظ بالتضامن مع باقي دول غرب إفريقيا الفرنسية في الميادين الاقتصادية والاجتماعية والثقافية.
وفي 28 من الشهر نفسه أعلنت الجمعية الإقليمية بإجماع أعضائها الحاضرين، في اجتماعها المنعقد لأول مرة في نواكشوط قيام الجمهورية الإسلامية الموريتانية (ج.ا.م)، عضوا في المجموعة الإفريقية الفرنسية. كما قرر المختار في الوقت ذاته تحويل الجمعية نفسها إلى جمعية تأسيسية مداولة في انتظار أن يتم إنشاء المؤسسات المختصة.
وكلف الحكومة بإنشاء لجنة استشارية دستورية تتولى إعداد مشروع دستور تتم المصادقة عليه بالاقتراع، وطالب الحكومة باتخاذ إجراءات رادعة ضد جميع الأعمال التخريبية التي تنال من المصلحة العامة للبلد واعتبار من يقوم بذلك خارجا على القانون.
ويذكر المختار ولد داداه أنه في 22 من ديسمبر وصل إلى باريس على رأس وفد يتكون من بونا مختار : نائب رئيس الجمعية الوطنية، وأحمد سالم ولد هيبه وزير الداخلية، ويوسف كويتا: عضو الجمعية التأسيسية”. فاستقبلهم الجنرال ديغول، وعرضوا عليه قراراتهم التي اتخذوها قبل ذلك بقليل. واستمر مقاميهم في باريس حتى يوم 8 يناير 1959
- وقد خصص النصف الأول من سنة 1959 لإنشاء مؤسسات الدولة الجديدة المستقلة ذاتيا تسمى (ج. إ. م)، وتمثل ذلك في صياغة الدستور والمصادقة عليه وانتخاب جمعيتنا الوطنية، وتشكيل الحكومة الجديدة، هذا على المستوى الداخلي. أما فيما يخص العلاقات مع الخارج فقد استمرت المجموعة الفرنسية الإفريقية في تنظيم نفسها، ووجدت المغرب فرصة للاحتجاج على فرنسا بحدة لكي لا تقبل دخول موريتانيا في هذه المجموعة.
أما النصف الثاني من هذه السنة فقد كان مضطربا بسبب أنشطة المعارضة التي تشكلت من حزب الاتحاد الوطني الموريتاني، وحزب النهضة، ورابطة الشباب الموريتاني.
وقد عقدت اللجنة الاستشارية الدستورية اجتماعها الأول في 15 يناير 1959 بعد أن تم تعيين أعضائها في الثاني من هذا الشهر، وكان نصف أعضاء هذه اللجنة معينين من لدن الحكومة بينما عينت الجمعية التأسيسية النصف الثاني 65. وانتخبت الجمعية مكتبها في هذا الاجتماع، وكانت تركيبه كالتالي:
أحمد ولد عيده رئيسا،
يحي كان نائبا للرئيس
محمد المختار الملقب معروف مقررا،
دمبلي تيكورا: نائبا للمقرر. وفي الغد تم تعيين لجنة تحريرها بالطريقة نفسها وضمت
الأستاذ المختار ولد حامدن،
محمد المختار الملقب معروف،
بونا مختار،
دمبلي تيكورا،
الأستاذ سيرين،
يحي كان عبد الوهاب ولد الشيكر.
وفي 21 من يناير وضعت الحكومة برنامجا للجولة التي سيعرض خلالها مشروع الدستور على كافة أنحاء الوطن. وفيما بين 11 و 23 فبراير 1959 ، قامت بعثة مؤلفة من سيدى
أحمد سالم ولد هيبه أمدو ديادي صمبا ديوم؛ جان سالت؛ حمود ولد أحمد؛ روحي فين باقيل (عضو في مجلس الدولة الفرنسي) سيرينان استاد فرنسي للقانون العام) المختار بن حامد أستاذ في گاندیگان التاريخ والفقه والآداب . وغير ذلك من المواد)؛ سامبا عبد الوهاب ولد الشيقر؛ وأنا المختار ولد داداه.
معدودى المختار انجاي دمبلي تيكورا؛ سليمان ولد الشيخ سيديا؛ محمد المختار الملقب معروف لالة سيدي محمد ولد عبد الرحمن؛ كان يحيى؛ سيدي بونا؛ سيداتي ولد مومنا حمد ولد عيده؛ الداه ولد سيدي هيبه؛ بونا مختار.
وقد اتبعوا منهجية موحدة حيثما حلوا فعندما يصلوا إلى أي عاصمة دائرة يجدوا السلطات المحلية، قد جمعت ممثلي كافة المجموعات في الدائرة، وجميع الموظفين ووكلاء الدولة والتجار والعمال، أي أكبر وأوسع تمثيل لسكان البلدة المزورة. ونعقدون معهم اجتماعات مطولة تستغرق وكثيرا ما تكون ساخنة. ويبدأ كل اجتماع بعرض ملخص عن المشروع بالفرنسية ثم يترجم إلى اللهجة الحسانية أو البولارية أو السوننكية أو الولفية حسب اللهجة المتكلمة في البلدة التي هم فيها.
بعد ذلك يبدؤون بالحوار، ويكون عادة مستفيضا وديمقراطيا. ويمكن لأي واحد من الحاضرين أن يتناول الكلام، وبالتالي يكثر المتحدثون جدا، ويتم شرح المشروع وينتقد، ويكون النقد في بعض الأحيان لاذعا. كما يتم طرح أسئلة محرجة وأكثر من يجيب عليها المختار ولد حامدن، وقد يجيب عليها غيره من أعضاء البعثة.
وينقسم مستمعونا، وأحيانا كثيرة، المناوئون لنا إلى مجموعتين: مجموعة التقليديين، وهم السواد الأعظم يقول “المختار” ويرون أن المشروع “متفرنس” جدا، وأن بعض مقتضياته لا تتفق مع تعاليم ديننا الحنيف، ويطلبون منا تغيير محتواه بحيث يصبح إسلاميا أكثر مما هو عليه، إذا لم نتمكن من استبداله كليا بتطبيق الشريعة الإسلامية. وأما الفريق الثاني فيتألف من الشباب عموما وأطره العصرية خصوصا، وكذلك طلبة المدارس الذين ينعتون المشروع بأنه رجعي ويقترحون تغييره ليأخذ منحى أكثر حداثة. وعندما ينتهي النقاش يستخلص المختار أو سيدى المختار الخلاصة، وهي دوما واحدة، إن لم يكن في شكلها وجوهرها معا ففي الجوهر على الأقل.
[منصة باركيول.نت]
وعلى الصعيد الداخلي كان البلد في هذه الأثناء يسير بخطي حثيثة نحو بناء مؤسسات استقلاله الداخلي. ففي 25 فبراير 1959 اجتمعت اللجنة الاستشارية للدستور، ودرست النتائج التي حصلت عليها البعثة خلال جولة تقديم مشروع النص. وفي 15 مارس الموالي عقدت جلستها الأخيرة وصادقت على مشروع الدستور ورفعته إلى الحكومة. وفيما بين 17 و 21 مارس عقد المكتب التنفيذي لحزب التجمع الموريتاني مؤتمرا مصغرا بحضور مندوبين من اثنين وعشرين قسما من أقسامه التي تم تنصيبها. وكان من بين التوصيات التي أصدرها تحديد 17 مايو من تلك السنة موعدا للانتخابات التشريعية، ورفع عدد النواب إلى 40 وتقسيم التراب الوطني إلى دائرتين انتخابيتين وأسندت إلى المكتب التنفيذي مهمة اعتماد مرشحي الحزب. وأعيد انتخاب كافة أعضاء المكتب التنفيذي.
وفي 21 مارس درس مجلس الحكومة مشروع الدستور وأحاله إلى مكتب الجمعية التأسيسية الذي أجازه في اليوم الموالي بالاقتراع السري وبإجماع أصوات الحاضرين. وأصدر المختار ولد داداه بيانا بهذه المناسبة جاء فيه: “لقد حصلنا اليوم على استقلالنا الداخلي التام، أي أن أمورنا غدت بأيدينا من الآن فصاعدا، ومن يرد المساس بسيادتنا أو إثارة الاضطرابات فسنواجهه نحن أنفسنا لا سوانا….
وفي اليوم نفسه رفرف العلم الموريتاني عاليا للمرة الأولى في تاريخ موريتانيا، وأسهمت حالة الجو في الابتهاج بهذه المناسبة التاريخية السعيدة، فقد هب نسيم البحر العليل كما لو كان يقدم مساعدة للعلم ليتعالى خفاقا في السماء مشرقا بهيا يطل على العاصمة التي كانت يومها مجرد ورشة بناء.
وبدأت حملة الانتخابات النيابية علي مستوى الحزب منذ أن تمت المصادقة على الدستور. وكان عدد المترشحين كبيرا نسبيا حيث وصلوا إلى نحو مائة
[منصة باركيول.نت]
وخمسين مترشحا يتنافسون على 40 مقعدا، وتعرض المكتب التنفيذي لضغوط كثيرة ومتنوعة. وفي جو متوتر أقر المكتب بتاريخ 21 إبريل لائحة مترشحي
الحزب وأعلنها. وجاءت ردود الفعل السلبية سريعة. ففي ظرف ثمانية أيام أعلنت مجموعة من حزب التجمع الموريتاني أغضبها عدم ترشيحه إياها عن إنشاء
حزب الوحدة الوطني الموريتاني الذي ما لبث أن أعلن عن انضمامه إلى الحزب الفيدرالي الإفريقي وأصبح يشكل فرعه في موريتانيا ويناصب حزب التجمع العداء. وفي 13 مايو دعا هذا الحزب، قبل الاعتراف به إلى مقاطعة الانتخابات التشريعية، ولكن دعوته لم يكن لها تأثير . فقد حصلت لائحتا حزب التجمع في انتخابات 17 مايو على الأغلبية الساحقة. وكانت إحدى اللائحتين يترأسها سيدى المختار انجاي بينما يتراس المختار الثانية.
وأعادت الجمعية في اجتماعها يوم 16 يونيو انتخاب سيدى المختار انجاي رئيسا لها. وفي الغد رشحت اللجنة التنفيذية لحزب التجمع الموريتاني المختار ولد داداه لمنصب رئيس الوزراء، وأجازت الجمعية بالإجماع هذا الترشيح يوم 23 يونيو، وأعلنت بالمناسبة : …. إن موريتانيا الجديدة التي تعرضت مع ولادتها لهجمات البعض (المغرب) وإغراءات البعض فيدرالية (مالي) لا تستطيع المقاومة والدفاع عن نفسها إلا إذا حافظت تماما على وحدتها الوطنية، والشعب قد صوت دون أي لبس للمجموعة الفرنسية الإفريقية، وهو على قناعة بأن هذا الموقف سيسمح له بنيل الاستقلال الوطني في أفضل الظروف الممكنة، وفي الوقت الذي يختار تحديده بحرية.
وفي ظل الاحترام المطلق المتبادل لاستقلال كل منا”. وفي 26 شكلت أول حكومة للجمهورية الإسلامية الموريتانية المستقلة داخليا، وكانت على النحو التالي:
رئاسة المجلس ووزارة الداخلية
المختار ولدداداه؛
وزارة المالية
موريس كومبانيي؛
الاقتصاد الريفي
أحمد سالم ولد هيبه؛
التخطيط والعقارات والتحضر والإسكان والسياحة
مامادو صامبولي؛
الأشغال العامة، والنقل والمواصلات
آمادو ديادي صمبا ديوم؛
التجارة والصناعة والمعادن
محمد المختار الملقب معروف
العدل والتشريع
شيخنا ولد محمد الأغظف؛
التربية والشباب والإعلام
سيدي محمد الديين؛
الوظيفة العمومية والشغل
سيدي أحمد الحبيب ولد الحسن؛
الصحة والشؤون الاجتماعية
حمود ولد أحمدُ
المصدر: مذكرات الرئيس المختار ولد داداه (رحمه الله)