بقلم الكاتب والناقد زكريا نمر
في المجتمعات الحديثة، حيث تتداخل الهويات الثقافية والاجتماعية، يبرز “المثقف القبلي” كإحدى الظواهر الأكثر انتشارًا وتأثيرًا. هذا النوع من المثقفين لا ينطلق من منظور معرفي مستقل أو رؤية نقدية متحررة، بل يكون ولاؤه الأساسي لجماعته، سواء أكانت قبيلة، طائفة، عرقًا، أيديولوجيا، أو حتى تيارًا فكريًا معينًا.
يتميّز المثقف القبلي بكونه يُوظّف معرفته وثقافته لخدمة انتمائه، متجاهلًا المبادئ الموضوعية التي تفرضها النزاهة الفكرية. بدلًا من السعي إلى البحث عن الحقيقة أو تحليل القضايا بموضوعية، ينحاز إلى مواقفه المسبقة، مما يجعله أشبه بناطق رسمي لجماعته أكثر من كونه مفكرًا مستقلًا.
من هو المثقف القبلي؟
المثقف القبلي ليس بالضرورة فردًا ينتمي إلى قبيلة بالمعنى التقليدي، بل هو كل مثقف يجعل من انتمائه لجماعة معينة سواء أكانت قبيلة، طائفة، أيديولوجيا، حزبًا، عرقًا، أو حتى مدرسة فكرية الموجّه الأساسي لأفكاره ومواقفه. فهو لا يُنتج أفكاره بشكل مستقل، بل يكيّف خطابه بما يخدم مصالح جماعته، حتى وإن كان ذلك على حساب الحقيقة والمنطق.
يظهر هذا النمط من المثقفين في مختلف المجالات، سواء في السياسة، الدين، الإعلام، أو حتى في الأوساط الأكاديمية. وهو أحد الأسباب الرئيسية لانتشار التعصب والاستقطاب، إذ يعزز الانغلاق الفكري، ويعيق أي حوار بناء يمكن أن يقود إلى تطور مجتمعي حقيقي.
تأثير المثقف القبلي على المجتمع
وجود هذا النوع من المثقفين يعمّق الانقسامات داخل المجتمعات، إذ يتحوّل الخطاب الثقافي إلى صراع بين مجموعات متناحرة، بدلًا من أن يكون ساحة للحوار والتطوير. كما أنّه يسهم في انتشار الجهل والتعصب، حيث يُغلّف الخطاب الأيديولوجي برداء ثقافي، مما يجعل الجماهير أكثر تقبّلًا له وأقل انفتاحًا على الأفكار المخالفة.في ظل هذا المناخ، تتراجع الأصوات المستقلة، ويصبح النقد الموضوعي عملة نادرة، فيما تسيطر السرديات الأحادية التي تغذي الصراعات بدلًا من حلّها. وبالتالي، يصبح المثقف القبلي جزءًا من المشكلة لا جزءًا من الحل، فهو لا يسهم في توعية المجتمع، بل يعزز استقطابه.
إنّ المثقف الحقيقي هو الذي يمتلك القدرة على تجاوز الانتماءات الضيقة والتعامل مع الأفكار بميزان النقد والتحليل، دون أن يكون أسيرًا لمصالح فئوية أو أيديولوجيات جامدة. فهل يمكن لمجتمعاتنا أن تتجاوز هذه الظاهرة وتعيد الاعتبار لدور المثقف بوصفه ضميرًا حيًا للأمة، لا تابعًا لها؟هذا المثقف قد يكون أكاديميًا، إعلاميًا، مفكرًا، أو كاتبًا، لكنه لا يستخدم أدواته الفكرية للنقد الحر، بل للتبرير والدفاع عن موقفه المسبق، مما يجعله أقرب إلى “مثقف السلطة” منه إلى المثقف الحرّ الذي يحمل هموم المجتمع ويسعى إلى تطويره.إذا أرادت مجتمعاتنا أن تتقدم، فلا بد أن تتحرر من سطوة المثقف القبلي، وتفسح المجال لمثقفين يحملون فكرًا نقديًا ورؤية مستقلة، قادرين على بناء مستقبل أكثر وعيًا وانفتاحًا.