بقلم الكاتب والناقد : زكريا نمر
لا يمكن بأي حال من الأحوال أن تكون القيم القبلية وروابطها هي الحاكم في النظام المدني، لأن هذا الأخير يستند إلى أسس مغايرة تمامًا، تقوم على مبادئ المساواة، وسيادة القانون، والعدالة الاجتماعية، بغض النظر عن الانتماءات العرقية أو القبلية. فالقبيلة، رغم أهميتها التاريخية والاجتماعية، تمثل مرحلة من مراحل التطور البشري، ولا يمكن أن تحلّ محل مؤسسات الدولة الحديثة، التي تقوم على قوانين واضحة، متفق عليها، تهدف إلى تحقيق الاستقرار والتنمية. فالفرق الجوهري بين النظام القبلي والنظام المدني يكمن في آلية الحكم وإدارة الشأن العام؛ ففي القبيلة، تسود روابط الدم والانتماء الأسري، بينما في الدولة، يسود القانون الذي يضمن الحقوق والواجبات لجميع الأفراد دون تمييز.
إن المجتمع المتجانس الذي يتكوّن من قبيلة واحدة قد لا يبدو في حاجة ماسة إلى القيم المدنية، لأن الروابط الداخلية القبلية، المبنية على التكافل والتضامن، قد تكفي لضمان حدّ معين من الاستقرار. ولكن ماذا عن المجتمعات الأكثر تعقيدًا، حيث تتداخل الهويات القبلية مع الانتماءات الطائفية والجهوية والسياسية؟ هنا يصبح الاعتماد على القيم القبلية ضربًا من المحال، إذ لا يمكن للانتماء القبلي وحده أن يحقق التوازن والاستقرار في مجتمع متعدد الهويات. فالمجتمع جنوب سوداني، على سبيل المثال، يضم عدة قبائل تتباين مصالحها ورؤاها، ما يجعل الاعتماد على العصبية القبلية في إدارة شؤون الدولة طريقًا محفوفًا بالمخاطر، لأنه يفضي إلى صراعات داخلية وتنازع على السلطة. في مثل هذه الحالات، يصبح من الضروري تبنّي نظام مدني حديث، قادر على استيعاب التنوع، وضمان حقوق الجميع، وترسيخ مبدأ المواطنة كقيمة عليا تتجاوز الولاءات الضيقة.القبائل تستند في معظمها إلى منظومة تقوم على العصبية، وهي رابطة قوية لكنها محدودة الأفق، إذ تعزز التضامن الداخلي ضمن الجماعة، لكنها في الوقت ذاته قد تكرّس التحيّز ضد الآخرين، ما يؤدي إلى خلق بيئة غير مستقرة سياسيًا واجتماعيًا.
النظام المدني، على النقيض من ذلك، يستند إلى فكرة المواطنة، حيث يكون الولاء للوطن لا للعشيرة، وللقانون لا للأعراف القبلية. غير أن هذا لا يعني أن القيم الإيجابية في النظام القبلي يجب أن تُهمل أو تُلغى، بل يمكن توظيفها في خدمة بناء الدولة الحديثة.
فالتكافل الاجتماعي، على سبيل المثال، قيمة يمكن أن تُستثمر في بناء مؤسسات الضمان الاجتماعي، كما يمكن استخدام مبادئ الاحترام المتبادل والشورى التي تتبناها بعض الأعراف القبلية لتعزيز الحوار الوطني. ولكن لكي يتحقق ذلك، لا بد من أن تلعب المؤسسات التعليمية والثقافية، مثل الجامعات والمراكز البحثية، دورًا حاسمًا في تفكيك النزعة القبلية الضيقة، وإعادة تشكيل الوعي الجمعي نحو تبنّي قيم أكثر شمولية وإنسانية.العصبية القبلية ليست جزءًا من الأخلاق ولا من الدين، بل هي انعكاس لظروف اجتماعية وسياسية معينة، تنشأ عندما يضعف الوازع الأخلاقي وتسود حالة من الفراغ القانوني، ما يؤدي إلى تفاقم النزاعات واندلاع الحروب الأهلية. في هذا السياق، يمكن اعتبار العصبية القبلية مظهرًا من مظاهر فشل النظام الاجتماعي والسياسي في توفير العدل والمساواة بين الأفراد. فالناس لا يتمسكون بالقبيلة بدافع الحب المطلق لها، بل لأنهم يجدون في الانتماء إليها حماية بديلة عندما تعجز الدولة عن أداء وظائفها الأساسية.
وهنا يكمن التحدي الحقيقي: كيف يمكن إقناع الأفراد بأن الدولة هي الضامن الفعلي لأمنهم واستقرارهم، وليس القبيلة؟ الحل يكمن في إعادة بناء الثقة بين المواطنين والدولة، من خلال توفير العدالة الاجتماعية، وضمان حقوق الإنسان، وتعزيز سيادة القانون، بحيث يشعر الجميع أنهم ينتمون إلى كيان جامع، وليس إلى مجموعات متفرقة متناحرة.في ظل الأزمات التي تواجه بلادنا اليوم، لم يعد من المقبول أن تقود القبائل المشهد السياسي والاجتماعي، بل ينبغي أن تكون القيادة بيد المؤسسات التعليمية والنقابات المهنية، التي تمتلك القدرة على توجيه المجتمع نحو التنمية والاستقرار.
لقد أثبت التاريخ أن الرهان على القبيلة كبديل عن الدولة الحديثة هو رهان خاسر، كما حدث في العديد من المناطق التي شهدت صراعات طاحنة بسبب الولاءات القبلية الضيقة. على سبيل المثال، عندما اندلعت الفتنة في عام 21013م ، لم تتمكن القبائل من منعها، بل كانت جزءًا من المشكلة، لأنها لم تستطع تجاوز مصالحها الضيقة من أجل المصلحة الوطنية. هذا يعني أن الفشل لم يكن مجرد فشل تعليمي أو إداري، بل كان فشلًا عميقًا في القيم الاجتماعية والسياسية التي لم تنجح في بناء مجتمع مدني متماسك. فالاصطفافات السياسية التي أدت إلى تفكك الوطن لم تكن سوى امتداد طبيعي للاصطفافات القبلية والجهوية، وهو ما يثبت مرة أخرى أن الدولة لا يمكن أن تُبنى على أسس قبلية، بل على أسس وطنية جامعة.قد يكون صحيحًا أن المجتمعات القبلية المتجانسة قد لا تحتاج إلى روابط مدنية بديلة إذا بقيت روابطها الأصلية سليمة ولم تتشوّه بفعل النزاعات والصراعات.
ولكن في المجتمعات المتعددة القبائل، يصبح من الضروري خلق هوية مدنية أقوى، قادرة على تجاوز الولاءات الضيقة نحو ولاء أشمل وأعم. هذا لا يعني القضاء على الروابط القبلية، بل العمل على توازنها مع قيم المواطنة، بحيث تصبح الهوية الوطنية هي الهوية السائدة، بينما تبقى الهويات القبلية جزءًا من التراث الثقافي، لا أداة للتمييز والتقسيم. هنا يأتي دور الجامعات ومؤسسات البحث العلمي، التي ينبغي أن تضطلع بمهمة نشر الفكر النقدي، وتعزيز ثقافة الحوار، وتفكيك الأساطير التي تكرّس العصبية القبلية، خاصة تلك التي يتم الترويج لها تحت عناوين الحكمة والتقاليد.إذا أردنا بناء وطن حقيقي، فليس أمامنا سوى الاعتماد على أهم ثروة نمتلكها: العلم. والعلم لا يوجد إلا في مؤسساته، بين قادته وخريجيه، الذين يُفترض أن يكونوا في طليعة من يقودون عملية التغيير. وإذا لم يتقدموا الصفوف بأنفسهم، فعلينا أن ندفعهم نحو ذلك دفعًا، لأن مستقبل الدولة يعتمد على قيادة مستنيرة، قادرة على تجاوز الانقسامات، وصياغة مشروع وطني شامل، يُرسّخ قيم العدل والمساواة، ويبني دولة قوية قائمة على مؤسسات فاعلة، لا على ولاءات متآكلة تُعيد إنتاج أزمات الماضي.