العديد من مناطق العالم، وخاصة في إفريقيا والمنطقة العربية، لا تزال الدولة الوطنية تواجه تحديات هيكلية عميقة. من أبرز هذه التحديات هو انتشار خطاب الكراهية المستند إلى وهم التفوق العرقي أو القبلي. هذا الخطاب لا يستند فقط إلى الموروثات التاريخية، بل يتم إعادة إنتاجه في كل جيل من خلال النخب السياسية ووسائل الإعلام والمناهج التعليمية، مما يشكل عائقاً حقيقياً أمام أي جهود لبناء وطن شامل ومتوازن.الوطن ليس مجرد أرض أو حدود مرسومة، بل هو مفهوم مشترك يتشاركه الناس على الصعيدين العاطفي والعملي.
عندما تُختزل قيمة الفرد في انتمائه القبلي أو العرقي، ويفقد المجتمع ثقته في مفهوم المواطنة، يتحول الوطن إلى ساحة صراع بين جماعات مغلقة، يسعى كل منها إلى السيطرة أو الحماية بدلاً من التعايش المشترك.الكراهية لا تنشأ من فراغ، فهي ليست غريزة فطرية، بل هي نتيجة تراكم طويل من الخطابات الإقصائية التي تعتبر الاختلاف تهديداً، والتنوع سبباً للفوضى. وقد أظهرت تجارب مؤلمة مثل تلك التي شهدتها رواندا وجنوب السودان أن تسليح الهويات الضيقة يمكن أن يؤدي إلى كوارث إنسانية ومآسٍ يصعب نسيان آثارها. وفي العديد من البلدان، كانت النزاعات المسلحة تُغذى بمفردات تُشيطن الآخر المختلف وتبرر العنف ضده، تحت ذريعة الحفاظ على الانتماء أو الشرف أو الحقوق التاريخية.ومع أن التنوع جزء أصيل من نسيج المجتمعات، إلا أن الطريقة التي يُدار بها هذا التنوع هي ما يحدد مصير الوطن. فحين يُوظف التنوع لتحقيق العدالة والتمثيل المتوازن، يصبح قوة ناعمة تدفع نحو الاستقرار والإبداع. أما إذا استُخدم كوسيلة للاستئثار أو لإعادة إنتاج التراتبية الاجتماعية، فإنه يتحول إلى قنبلة موقوتة تهدد السلم المجتمعي وتُغذي الانقسام.إن تجاوز وهم التمايز لا يتطلب محوه أو تجاهله، بل التعامل معه بوعي.
لا أحد يُطلب منه أن ينسى هويته، لكن الجميع مُطالب بأن يرتقي بها لتكون جزءاً من هوية وطنية أوسع. فالمجتمعات الناجحة لم تبنِ وحدتها على الإنكار، بل على الاعتراف والاحترام المتبادل، وعلى تأسيس مشترك إنساني وقانوني يضمن المساواة.من هنا، تبرز أهمية التربية على القيم التشاركية، وعلى مفهوم المواطنة. ما نُدرّسه في المدارس، وما نروّجه في الإعلام، وما نقوله لأطفالنا، كل ذلك يشكل المادة التي تتكون منها رؤيتنا للآخر. فإذا غرسنا في الجيل الجديد أن القبيلة هي الأصل، وأن المختلف خطر، فإننا نعيد إنتاج المأساة. لكن إذا علمناهم أن التنوع مصدر قوة، وأن الحق لا يُكتسب بالدم، بل بالاستحقاق، فإننا نؤسس لجيل أكثر تسامحاً وانفتاحاً.الانتقال من الانتماء الضيق إلى الانتماء الجامع ليس سهلاً، لكنه ممكن. وتجارب عدة في التاريخ أثبتت أن المجتمعات قادرة على تجاوز الكراهية إذا امتلكت الإرادة السياسية والشجاعة الأخلاقية.
تجربة جنوب إفريقيا بعد نظام الفصل العنصري قدّمت نموذجاً ملهمًا في المصالحة، حيث اختارت الدولة الاعتراف بالجرح والعمل على مداواته بدلاً من إنكاره. تلك التجربة لم تُلغِ الألم، لكنها حوّلته إلى طاقة لبناء مستقبل مشترك.الوطن الحقيقي هو ذلك الذي يحتضن الجميع، لا ذلك الذي يُقسَّم كالغنائم. وطن تُبنى فيه العلاقة بين الفرد والدولة على قاعدة الحقوق والواجبات، لا على مفردات الولاء القبلي أو الاصطفاف العرقي.
وطن لا يميز بين مواطنيه إلا بالكفاءة والالتزام بالقانون. وطن يحترم تنوعه، ويجعل منه مدخلاً للثراء الثقافي، لا بوابة للصراع.أشار المفكر المغربي “محمد عابد الجابري” إلى أن أحد العوائق التي تعترض مسيرة النهوض في العالم العربي هو استمرار “العقل القبلي” في التغلغل داخل المؤسسات السياسية والاجتماعية. هذا الوضع يجعل الدولة رهينة لانتماءات ما قبل وطنية، مما يعيق تحولها إلى دولة مدنية حديثة.ويؤكد الفيلسوف السنغالي “شيخ أنتا ديوب” هذا الرأي، حيث ربط تحرر إفريقيا من التخلف بتجاوز النزعات الإثنية والتركيز على الهوية الحضارية المشتركة، مشددًا على أن القارة تواجه تحديات تنموية وبيئية مشتركة.الكراهية لا تبني الدول، ولا تحافظ على الهوية، ولا تساهم في بناء المستقبل. بل إنها تمزق وتضعف، وتفتح الأبواب أمام الدمار. لا يمكن لمجتمع أن يعيش في ظل الكراهية دون أن يفقد إحساسه بالإنسانية المشتركة. إذا كنا نرغب في العيش في وطن حقيقي، يجب علينا هدم الأسوار النفسية قبل الجغرافية، وتحرير أنفسنا من أوهام التفوق، وبدء تأسيس عقل جديد يؤمن بالكرامة للجميع، ويعتبر الاختلاف حقاً وليس تهديداً. لا يمكن أن يكون هناك وطن مع وجود الكراهية، لأن الوطن ليس امتيازاً يُمنح لبعض الأفراد، بل هو حق يتشاركه الجميع.