بقلم محمد سليمان شحرور
#قبل_فرحة_العيد : الوطن الذي نؤمن به، لا يمكن أن يكون قطعة أرض وانتماء مزعوما..الانتماء للوطن لا يقاس بتجذّر الأصل، أو وفاق اللون للأكثرية، أو الطبع أو اللغة، أو الثقافة..الوطنيةُ قدرٌ تثبته الأوراق لذلك سميت “ثبوتية” لأنها شهادة بالأحقية.فكثيرون قطعتهم وقائع الدهر عن أرض عاش فيها أسلافهم، ولم يعودوا من مواطنيها.. كالأفارقة في أمريكا، والعربُ في إفريقيا، وإسبانيا…والبيض في جنوب إفريقيا والكونغو، والكاميرون..هذا الانتماء يتطلب إحساسا عمليا بالأهمية، وشغفا بالوجود الفاعل، وسلاما وأمنا، وانسجاما، رغما عن الاختلاف والتنوع، والتباين..لا شيء تفرضه علي ولا أنا أفرضه عليك، لك الحق أن تعبر عن ذاتك وثقافتك، دون أن تبخسني اختلافي عنك، أو تُكاثر بي لأكون جزء منك، أو تابعا لك، أو عليك.
وفي هذا الفضاء الواسع ما يغني عن ضيق العطن، ونكد التصور، وصراعات الوجود، فالدستور يقضي بأرجحية الترجيح حيث لا مندوحة عنه، وكلما يكفل للشعوب الرخاء والتعايش فهو الغاية والمُبتغى، وعليه يتأسس الاجتماع القويم.ما دامت المواطنة انتماء متساويا، والحكمُ سواسيةٌ وتفويض جمعي، والدستور حاكم، والقوانينُ راعية ورقيب، وضابط، وبموجب ذلك تَوَطَّنْتُ وتَوَطَّنتَ، فلا معنى لأن تسلبني ما لم تُعْطِه، أو تتفضل بما لا تملك، هذه مكابرةٌ ومزايدة من جاهل لم يُؤطر على الاجتماع، ولم يدخل قلبه إيمان بالدولة، وحاكميةِ شرائعها ونظمها.
وإذا كنا جميعا حريصين على هيبة الدولة، وانسجام المجتمع، مُؤثِرين لضرورة البناء والتنمية، فلنهدِ بالتي هي أقوم في الحكامة الرشيدة، والشراكة الحقيقة، وإيثار الحق الذي هو الأهلية والشفافية في التوظيف والاختيار، وفي الترميز وسرديات التاريخ، والجغرافيا، لأننا نسيجٌ متنوع يفترض أن يمشي في مسار كلي نحو الغد. وإلا فنحن نكذب وينتظرنا غد مظلم بقدر الظلم ومرارة التهميش، والأثرة الآثمة، وبفداحة التغاضي وراهنية الحلول الترقيعية، والاستشفاء بالكلام والخطابات المحضة.
إن الوطن -وموريتانيا أقصد- هي أحوج ما تكون اليوم إلى أبناء يَعُونَ مدى حاجتنا إلى وطن نعيش فيه بأمن وسلام، كاستثناء أخير في فضاء ملتهبٍ..يَعُونَ ما يتطلبُه العيشُ المشترك من مُتاركة ثارات الأمس وتجاوزها بالتخلي الواعي الحصيف، والقضاء على الأثر الباقي، والتخفف من انتصارات متوهمة، وتدارك عقلية الأفضلية والأحقية لأنها لا تجدي في الفضاء العام، فلا وجود إلا لحق واحد وهو للجميع، ولنا الساعة التي نحن فيها، وأما ما سلف وما مضى، فأثر أمة قد خلت لها ما كسبت وعليها ما اكتسبت، نحمدُ خيرها، ولا نُبقي أثرا للشر، فالشر شر ولو ورثته من جدودك الأقربين..
دعونا نتجاوز مرحلة ما قبل الدولة، فلا أنا معني بعروبتك، ولا أنت معني بأعجميتي، ولا أحد منا يُحدد للآخر من يكون ولا كيف يكون، فلكل خياراته الخاصة على أن نظل أبناء وطن واحد تجمعنا ذات الحقوق والواجبات، ويرعى القانون اختلافنا وتنوعنا، ونغذي بثقافاتنا صورةً زاهية تمثلنا معا كموريتانيين.
إن الهويات الحساسة المتصارعة، وكثيرة المِراء والتخاصم لا تتخلَّقُ إلا في مجتمعات ضعيفة، فاقدة لأهدافها وغاياتها، غير مقتنعة بوجودها، وكياناتها، فتظل مُرهقة بسؤال من أكون؟ وهل أكون على حساب غيري؟ وهل أسمح له أن يختلف عني؟ وهل وجوده يُهددني؟!هذه أسئلة المجتمعات الهشة التي لم تحسم مقتضيات وُجودها، ونحن مخاطبون بتجاوز هذه المرحلة بكياسة وعقل، لا بعاطفة وغباء واستكبار.موريتانيا بكل فئاتها وطن، وأمة، وكيان قوي، وهي بتشرذمها كيان ضعيف متخلف، تنخره الأنانية، والفساد، وتردي الخدمات، وانعدام المؤسسية، والمسؤولية، وإحساس الفرد بأهمية مصالحه الضيقة وأولويتها على حساب المصلحة العامة، وهذه مسالك سالبة، وخيارات مفضية إلى الهلاك -لا قدّر الله ذلك- والعاقل يعتبر بغيره “ويرعاها سابگ تلحگو”، فحكموا العقل لا العاطفة، ذلك خيرٌ لكم إن كنتم تعقلون.