بقلم الدكتورة محمد الراظي
في مثل هذا اليوم من عام 2021 يذركني الفيسبوك بهذا التعقيب على مداخلة الرئيس الأستاذ محمد جميل منصور التي قدمها على منصة “ملتقى الرأي ” تحت عنوان: الحكم من منظور الفكر الإسلامي.
السلام عليكم ورحمة الله تعالي وبركاته
الأستاذ محمد جميل منصور شخص نابه له ثقافة غنية ومتنوعة والإختلاف معه في رأي أو فكرة أو مسلك أو منهجية لا يمكن أن يحجب عن المرء مكانة الرجل الفكرية والسياسية الكبيرة وعلو كعبه في القدرة على توصيل أفكاره والدفاع عنها بلغة جميلة وبيان ساحر وإتقان كبير في توليد الأفكار وترتيبها…….ومداخلته اليوم بعيدة كل البعد من أن تكون استثناء.
أستسمحه في أن أختلف معه في طريقة معالجته لموضوع “الحكم من منظور الفكر الإسلامي” حين اختار حصره في زاوية القيم الحاضنة بدل أن يتناول التأصيل المرجعي لنظريات الحكم والحكامة ولتجارب الحكم الأساسية التي عاشها المسلمون منذ “الصحيفة” وإلى اليوم.
لقد أبعده ذلك كثيرا عن معالجة الموضوع الأساس أو على الأقل ما كنت أتوقعه من حديث حول طبيعة الحكم وكيفية الوصول إليه و آليات مراقبة السلطة وطرق ووسائل المساءلة وغير ذلك من العناوين البارزة لموضوع بهذه الأهمية بالنسبة للمسلمين في حاضرهم ومستقبلهم……
القيم الحاضنة من قبيل إقامة العدل والمساواة وغير ذلك ليست خاصة بالمسلمين وإنما يرجع الجميع لها عند صياغة أية منظومة فكرية أو سياسية.
شهد التاريخ الإسلامي نمطين من الحكم: حكم سماوي محروس بالوحي في عهد النبوة وحكم أرضي بشري يتطور بتطور الإنسان في عقله وعلمه وفهمه ومسار القوة والضعف عبر التاريخ.
وحري بأصحاب الرأي من المسلمين حين التطرق لموضوعات بهذه الدرجة من الأهمية أن يكون ذلك بتجرد كبير وأن يميزوا بين العصمة وغيرها وبين المقدس وغيره وبين الحكم في دولة النبوة والحكم في بلاد المسلمين من بعد ذلك.
لم تكن هناك دولة إسلامية إلا في عصر النبوة وكانت دولة خاصة ونظام حكم خاص ، شرعيته من الله سبحانه وتعالى لا من عباده و سلطته معصومة ودولته لا يستقيم فيها أمر إلا بوحي إعلامي أو إقراري.
أما بعد أن واجه المسلمون الفراغ الذي نتج عن غياب رسول الله صلى الله عليه وسلم، تنافروا وتفرقوا وتقاتلوا مما أنتج مدارس متعددة أهمها مدرستي السنة و الشيعة.
فأما السنة فقد عاجلتهم الفتن بُعيد وفاته صلى الله عليه وسلم فَدَبَّت الخلافات بينهم حول من هو الأجدر بالخلافة ولم يجدوا الوقت الكافي لتأصيل فكري للحكم واكتفوا بالقول بواجب طاعة من وصل للسلطة ما لم يدعو لكفر بواح بغض النظر عن الطريقة التي وصل بها و لم يسلم أحد من كبار الأئمة من أن يكون سندا لأحد السلاطين……
اختلطت الفتيا بالحكم والشرع بالسلطة وأبدع الفكر عندهم في تأمين الحكم بدل إنتاج الحاكم وبناء منظومة الحكامة وأصبح “الولاء للغالب” ثقافة تتوارثها الأجيال مما أغلق المجال أمام الكثير من قادة الفكر عن بلورة نظرية سياسية للحكم…..السلطان بحاجة لقبول شرعي والإمام بحاجة لحماية السلطة السياسية ونشر مذهبه بقوة الحاكم ولا توجد ضوابط معرفية ولا فكرية لمصدر الفتيا تكون ملزمة ومانعة……فالمكانة المعرفية وما يترتب عليها من سطوة معنوية يعطيها الأتباع للمتبوعين ومن هم دون لمن هم أعلى عكس ما هو عليه الحال عند الشيعة الذين يؤمنون بعصمة الإمام لأنه ” يحمل شحنة من نبوة” و يعتمدون هرمية معرفية تتوج بمرجعية شرعية في الدين والسياسة لا يمكن الخروج عليها فتصبح مرجعا أخيرا لتزكية أي حاكم وأي نظام حكم : “ولاية الفقيه”
تقوم المدرسة الحوزوية على ثلاثة مستويات ومناهج هي “المقدمات” و “السطوح” و”العلم الخارج” وتستمر كل مرحلة دراسية لسبع سنين وفي نهاية كل مسار من هذه المسارات الدراسية تترتب درجات ما يعرف ب”حجة الإسلام” و”حجة الإسلام والمسلمين” و”آية الله و”آية الله العظمي” ولكل درجة مستوى خاص من إلزامية الطاعة……هنا تكون تزكية الحاكم في شخصه أو في طريقة وصوله للسلطة من قبل هيأة معصومة كافية لقبول مجتمعي له.
تطرق المحاضر لما أسماه المرجعية القانونية وقسمها إلى مصدر تشريعي أرجعه للوحي ومصدر الشرعية أرجعه للناس ولم يتطرق للشريعة وما يميزها عن التشريع وعلاقة الإثنين بالوحي.
لا يفوت المحاضر أن الحدود التي نزلت وحيا في القرآن الكريم لا تتعدى الخمسة وخامسها بشروط وكل ما عدا ذلك من تشريع إسلامي كان من إنتاج بشر تفسيرا أو تأويلا أو استنباطا وغالبا ما يكون في جو سياسي مشحون وهو ما يفسر تعدد المذاهب وتعدد الفروع داخل كل مذهب مع العلم أيضا أن المذاهب قد تم حصرها في أربعة بقرار أرضي من سلطان مملوكي…..وليس بأمر من السماء
أما ما وصفه مصدر الشرعية في المرجعية القانونية والذي عبر عنه ب”سلطة الناس” في تزكية الحاكم فلم تشهد دولة أو دول ما بعد النبوة أية تجربة حكم مبنية عليه.
ما حدث في السقيفة الأولى والثانية لم يكن مشورة بمعنى مشاركة الناس في اختيار من يتولى أمرهم وإنما كاد المهاجرون والأنصار أن يقتتلوا وكان تنصيب أبي بكر الصديق بقوة وهيبة عمر ولم يكن بمشورة وجاءت البيعة كتحصيل حاصل ولم يكن هناك إجماع رغم المكانة الدينية والمعنوية لصاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم…..والذين لم يبايعوا ليسوا -كما ذهب إليه المحاضر – مجرد آحاد بل أناس لهم مكانة كبيرة في نشأة الدولة واستقرارها ؛ فمنهم علي بن أبي طالب ومنهم عمه العباس ومنهم زوجه فاطمة بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم ومعهم غيرهم من الأخيار كثير…..وقد يكون عدم المشاركة في اختيار الخليفة من بين الأسباب التي جعلت ثلاثة من الخلفاء الراشدين يتعرضون للإغتيال وقد يكون قصر المدة في الخلافة هو ما شفع لأبي بكر فمات موتا طبيعيا……
لا أفهم كثيرا كيف يكون الحديث عن نظام حكم إسلامي لأن الحاكم -إن لم يكن نبيا – لا يقيم الدين وليس من اختصاصه ولا قِبل له به ولا قدرة له عليه ولم يشهد التاريخ أية تجربة حكم أقامت الدين ولو كان ذلك حصل ما كان وُجد غير مذهب واحد هو مذهب أهل السنة.
ثم إن أية مرجعية قانونية لمصادر الحكم ينبغي أن تلزم الحاكم بالأخذ بها وإلا كانت مجرد تأشيرة عبور وقبول لصاحبها لدى الناس.
فكيف يمكن تخيل منظومة تشريعية ومدونات فقهية لنظام حكم إسلامي في دولة مسلمة فيها سنة وشيعة وأباظية وزيديون…. ؟
وماذا يقول الفكر الإسلامي اليوم بحق من يتولى اليهود والنصارى من المسلمين حكاما وساسة ومفكرين ودعاة وفقهاء لتدمير الأوطان وتفتيت الشعوب وتمزيق الكيانات في العراق و ليبيا وسوريا واليمن…….وما ذا يقول في أرجحية الإستقرار على العدل ؟ كان ابن تيمية قد حذر من الخروج على السلطان من خلال مقولته الشهيرة : “ألف يوم من سلطان جائر خير من يوم واحد من دون سلطان” ولكننا نرى اليوم أن تشريع الخروج على السلطان أصبح أمرا في غاية البساطة حين يكون الحاكم لا يخدم أجندة أصحاب الفتيا ثم يعود كفرا بواحا حين يتعلق بحاكم يخدم أصحاب الفتيا ومشاريعهم وفق بوصلة الربح والخسارة لهذا أو ذاك…….هل نحن أمام فكر إسلامي للحكم في طور التشكل أم أن هذا الفكر موجود أصلا وكل يأخذ منه ما يدعم به رأيه !!!!!
غياب المرجعية الملزمة والمقنعة في ديار أهل السنة تركت الحبل على الغارب في تطويع الفتيا وتذليلها خدمة لمصلحة المستفتي والمفتي…..فمتى يكون الحاكم جائرا ومتى يصبح الخروج عليه مشروعا وهل يجوز الإستعانة بغير المسلم عليه ؟
ماذا يقول الفكر الإسلامي في أنظمة الحكم الوراثية في بلاد المسلمين حيث يولد المرء حاكما !؟ هل خلف رسول الله صلى عليه وسلم أحدا من عترته !!!!! وهل فعلها أبو بكر الصديق أو عمر أو عثمان أو علي !!!!!! وماذا يقول الفكر الإسلامي في الحروب البينية في ديار الإسلام وهي وإن كانت من فعل الحكام إلا أن أيادي أهل السياسة والفكر ضالعة فيها تبريرا وتحريضا ومشاركة ؟ وماذا يقول الفكر الإسلامي في سوء الحكامة ونهب وتبديد ثروات الشعوب المسلمة ؟ هذه أسئلة وغيرها كثير كنت أتوقع أن تجيب عليها المحاضرة.
لم ينتج الفكر الإسلامي في الماضي منظومة فلسفية ولا سياسية لنظام الحكم من منظور شرعي وازداد المشهد تشويشا اليوم حين أصبح التنظير للشيئ ونقيضه رياضة ممتعة والسكوت عن منكرات الحكام موقفا يترسخ كلما كان به نفع لهذا الشخص أو ذاك أو هذه الجهة أو تلك.
انتهى المحاضر إلى مقاربة تقوم على تثمين الديمقراطية كأساس للحكم وفي هذه الحالة لم نعد في وارد الحديث عن الحكم من منظور إسلامي إذ الديمقراطية نبتة أخرى و منظومة مدنية – لها علات ونواقص كثيرة- ولا وجود لأثر للدين الإسلامي بها.
يقول الأستاذ محمد جميل في خلاصته : “أختم بخلاصة تتعلق بمقابلة سائدة ومقابلة مطلوبة. أما المقابلة السائدة فهي المقابلة التقليدية في الجدل الفكري بالساحة العربية والإسلامية بين إسلامي وعلماني لأنها تركز على الهوية الفكرية للدولة وأن المقابلة الصحيحة هي التي تتوجه إلى الطبيعة السياسية للدولة وبالتالي: ديمقراطي-استبدادي ….من هنا يكون اللقاء المطلوب بين الإسلام والحرية وبين الإسلام والديمقراطية ..”
هنا أذكر الأستاذ بأن الجدل بين إسلامي وعلماني لم يكن حول هوية الدولة بقدر ما كان حول الطبيعة السياسية للدولة التي وصفها ب”المقابلة الصحيحة”.
منشأ الخلاف أن الحركات الإسلامية كانت تدافع عن مبدأ “الحاكمية لله” ولا شك في ذلك فلا حكم إلا به ولا وجود بدونه ولا موجود سواه.
لكن الخلاف ليس حول ظاهر العبارة وإنما في مدلولاتها والفهم الخاطئ عند البعض لها.
قال بها الخوارج أول مرة ووصفها علي بن أبي طالب ب”كلمة حق أريد بها باطل” وانتهى تداولها لقرون عديدة إلى أن ظهرت ثانية في كتابات المودودي وذاعت أكثر على لسان سيد قطب.
يعني هذا المصطلح أن الذي يحكم يحكم بأمر من الله وأن الحكم ينبغي أن يكون حكما دينيا ولا يجوز الحكم بغير ما وصل في كتب السابقين من تشريعات وكل تشريع جديد أو قوانين جديدة في مسألة حكم أو حكامة أمر مجرم شرعا في حين يري المدافعون عن العلمانية السياسية أن الحكم حين يكون دينيا يصبح مقدسا والقداسة لا تتأتى إلا بعصمة والعصمة ليست لغير نبي الله صلى الله عليه وسلم وبأن نظام الحكم من اختصاص البشر ولا يمكن لحاكم يخطئ ويصيب أن يكون ظلا لله.
وقد حسم الأستاذ محمد جميل الأمر في صوتيته الأخيرة حين قال: ” لا مجازفة في القول إن تصور الحكم عند غالبية أو عدد واسع من المهتمين بالفكر الإسلامي انتهى إلى المقاربة الديمقراطية في شكل النظام السياسي وأن يقدم في إطار هذه المقاربة الديمقراطية برنامج سياسي ينطلق من المرجعية الإسلامية، فالذي يحسم المعركة بين المتخالفين والمتباينين هو خيار الناس وانتخاب الناس واختيار الناس وحسم الناس وعزل الناس إن تعين ذلك….”
هنا أرجع مصدر السلطة ورقابتها ومحاسبتها إلى الناس وهذا جوهر العلمانية السياسية التي نادت بها بعض النخب والأحزاب في الدول العربية….ويقول الأستاذ محمد جميل منصور في موقع آخر : ” ومن أفضل ما في الديمقراطية أنها تمتلك أدوات تصحح بها أخطاءها ولذلك هي تخطئ ، تفرز أحكاما فاسدة ومخطئة ومنحرفة ولكنها في نفس الوقت تملك آليات تصحيح هذه الأخطاء دون العودة إلى مصدر للشرعية غير الناس ولذلك يلتقي الفكر الإسلامي مع الفكر الديمقراطي في هذا السياق وذلك ما انتهى إليه كثير من المنظرين في الفكر السياسي الإسلامي المعاصر…”
وتعقيبا على هذا المقطع من صوتيته الأخيرة استوقفتني عبارة: دون العودة إلى مصدر للشرعية غير الناس…أي أنه جعل الإنسان هو مصدر الشرعية ونفى كل مصدر آخر كما استوقفني ما ذكره من أن هذا المصدر الوحيد للشرعية هو نقطة الإلتقاء بين الفكر الإسلامي والفكر الديمقراطي(العلماني بطبيعته)
فهل يمكن القول إن الأستاذ محمد جميل قد رجح قول هؤلاء على ما كانت تدفع به الحركات السياسية ذات المرجعية الدينية في الوطن العربي؟ وأنه يعلن من خلال هذه المحاضرة منهجا جديدا وفلسفة حكم جديدة للحركات السياسية الإسلامية في الوطن العربي والعالم الإسلامي ؟
ختاما شكرا لكم جميعا وصوما مقبولا